فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (98):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)}
{قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بئايات الله} خاطبهم بعنوان أهلية الكتاب الموجبة للإيمان به وا يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم بذلك والاستفهام للتوبيخ والإشارة إلى تعجيزهم عن إقامة العذر في كفرهم كأنه قيل: هاتوا عذركم إن أمكنكم. والمراد من الآيات مطلق الدلائل الدالة على نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وصدق مدعاه الذي من جملته الحج وأمره به، وبه تظهر مناسبة الآية لما قبلها، وسبب نزولها ما أخرجه ابن إسحق وجماعة عن زيد بن أسلم قال: مرّ شاس بن قيس وكان شيخًا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شابًا معه من يهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن وغضب الفريقان جميعًا وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة والظاهرة الحرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين اللَّهَ اللَّهَ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضًا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله تعالى عنهم كيد عدو الله تعالى شماس، وأنزل الله تعالى في شأن شاس وما صنع {قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَكْفُرُونِ} إلى قوله سبحانه: {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98، 99] وأنزل في أوس بن قيظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا {المحسنين ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ} [آل عمران: 149] الآية، وعلى هذا يكون المراد من أهل الكتاب ظاهرًا اليهود. وقيل: المراد منه ما يشمل اليهود والنصارى.
{والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} جملة حالية العامل فيها {تَكْفُرُونِ} وهي مفيدة لتشديد التوبيخ والإظهار في موضع الإضمار لما مرّ غير مرة والشهيد العالم المطلع، وصيغة المبالغة للمبالغة في الوعيد وجعل الشهيد عنى الشاهد تكلف لا داعي إليه، و{مَا} إما عبارة عن كفرهم، وإما على عمومها وهو داخل فيها دخولًا أوليًا والمعنى لأي سبب تكفرون، والحال أنه لا يخفى عليه بوجه من الوجوه جميع أعمالكم وهو مجازيكم عليها على أتم وجه ولا مرية في أن هذا مما يسد عليكم طرق الكفر والمعاصي ويقطع أسباب ذلك أصلًا.

.تفسير الآية رقم (99):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}
{قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ} أي تصرفون {عَن سَبِيلِ الله} أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام {مَنْ ءامَنَ} أي بالله وا جاء من عنده أو من صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن أراد ذلك وصمم عليه وهو مفعول لتصدون قدم عليه الجار للاهتمام به {تَبْغُونَهَا} أي السبيل {عِوَجَا} أي اعوجاجًا وميلًا عن الاستواء ويستعمل مكسور العين في الدين والقول والأرض، ومنه {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 107] ويستعمل المفتوح في ميل كل شيء منتضب كالقناة والحائط مثلًا وهو أحد مفعولي تبغون فإن بغى يتعدى لمفعولين أحدهما: بنفسه والآخر: باللام كما صرح به اللغويون وتعديته للهاء من باب الحذف والإيصال أي تبغون لها كما في قوله:
فتولى غلامهم ثم نادى ** أظليمًا أصيدكم أم حمارا

أراد أصيد لكم، وقال ابن المنير: الأحسن جعل الهاء مفعولًا من غير حاجة إلى تقدير الجار، و{عِوَجَا} حال موقع موع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس المعوج، وادعى الطيبي أن فيه نظرًا إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون {عِوَجَا} هو المفعول به لأن مطلوبهم فلابد من تقدير الجار وفيه تأمل، وقيل: {عِوَجَا} حال من فاعل تبغون والكلام فيه كالكلام في سابقه، وجملة تبغون على كل حال إما حال من ضمير {تَصُدُّونَ} أو من السبيل وإما مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد، والأكثرون على أنه كان بالتحريش والإغراء بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم كما دل عليه ما أوردناه في بيان سبب النزول فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب هم اليهود أيضًا، والتعبير عنهم بهذا العنوان لما تقدم وإعادة الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع والتوبيخ لهم على قبائحهم وتفصيلها ولو قيل: لم تكفرون بآيات الله وتصدون عن سبيل الله؟ لرا توهم أن التوبيخ على مجموع الآمرين، وقيل: الخطاب لأهل الكتاب مطلقًا وكان صدهم عن السبيل بهتهم وتغييرهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ذهب الحسن وقتادة وعن السدي كانوا إذا سألهم أحد هل تجدون محمدًا في كتبكم؟ قالوا: لا فيصدونه عن الإيمان به وهذا ذمّ لهم بالإضلال إثر ذمهم بالضلال. وقرئ {تَصُدُّونَ} من أصد.
{وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} حال إما من فاعل {تَصُدُّونَ} أو من فاعل تبغون والاستنئاف خلاف الظاهر أي كيف تفعلون هذا وأنتم علماء عارفون بتقدم البشارة به صلى الله عليه وسلم مطلعون على صحة نبوته أو وأنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وصفتكم هذه تقتضي خلاف ما أنتم عليه {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد لهم على ما صنعوا قيل: لما كان كفرهم ظاهرًا ناسب ذكر الشهادة معه في الآية السابقة لأنها تكون لما يظهر ويعلم، أو ما هو نزلته وصدهم عن سبيل الله وما معه لما كان بالمكر والحيلة الخفية التي تروج على الغافل ناسب ذكر الغفلة معه في هذه الآية فلهذا ختم كلًا من الآيتين بما ختم.

.تفسير الآية رقم (100):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)}
خطاب للأوس والخزرج على ما يقتضيه سبب النزول ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ، وخاطبهم الله تعالى بنفسه بعد ما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب أهل الكتاب إظهارًا لجلالة قدرهم وإشعارًا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلمهم فلا حاجة إلى أن يقال المخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بتقدير قل لهم. والمراد من الفريق بعض غير معين أو هو شاس بن قيس اليهودي، وفي الاقتصار عليه مبالغة في التحذير ولهذا على ما قيل حذف متعلق الفعل، وقال بعضهم: هو على معنى إن تطيعوهم في قبول قولهم بإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية و{كافرين} إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الردّ معنى التصيير كما في قوله:
رمى الحدثان نسوة آل سعد ** بمقدار سمدن له سمودا

فرد شعورهن السود بيضا ** ورد وجوههن البيض سودا

أو حال من مفعوله، قالوا: والأول: أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر، و{بَعْدَ} يجوز أن يكون ظرفًا ليردوكم وأن يكون ظرفًا لكافرين وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل: بعد إيمانكم الراسخ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه.

.تفسير الآية رقم (101):

{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} أي على أيّ حال يقع منكم الكفر {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله} الدالة على توحيده ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه، والجملة وقعت حالًا من ضمير المخاطبين في {تَكْفُرُونِ} والمراد استبعاد أن يقع منهم الكفر وعندهم ما يأباه. وقيل: المراد التعجيب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا في سائر الأحوال لاسيما في هذه الحال التي فيها الكفر أفظع منه في غيرها؛ وليس المراد إنكار الواقع كما في {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا} [البقرة: 28] الآية؛ وقيل: المراد بكفرهم فعلهم أفعال الكفرة كدعوى الجاهلية فلا مانع من أن يكون الاستفهام لإنكار الواقع، والأول أولى وفي الآية تأييس لليهود مما راموه، والأكثرون على تخصيص هذا الخطاب بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوس والخزرج منهم، ومنهم من جعله عامًا لسائر المؤمنين وجميع الأمة، وعليه معنى كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إن آثاره وشواهد نبوته فيهم لأنها باقية حتى يأتي أمر الله ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب، وإيذانًا بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت.
{وَمَن يَعْتَصِم بالله} إما أن يقدر مضاف أي ومن يعتصم بدين الله؛ والاعتصام عنى التمسك استعارة تبعية، وإما أن لا يقدر فيجعل الاعتصام بالله استعارة للالتجاء إليه سبحانه قال الطيبي: وعلى الأول: تكون الجملة معطوفة على {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ} أي كيف تكفرون أي والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بحال المعتصم به جل شأنه، وعلى الثاني: تكون تذييلًا لقوله تعالى: {المحسنين ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ} [آل عمران: 100] إلخ لأن مضمونه أنكم إنما تطيعونهم لما تخافون من شرورهم ومكايدهم فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله تعالى في دفع شرورهم ولا تطيعوهم أما علمتم أن من التجأ إلى الله تعالى كفاه شر ما يخافه، فعلى الأول: جيء بهذه الجملة لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوي المفهوم من قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ} إلخ، وعلى الثاني: للحث على الالتجاء، ويحتمل على الأول التذييل، وعلى الثاني الحال أيضًا فافهم، و{مِنْ} شرطية.
وقوله تعالى: {فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ} جواب الشرط ولكونه ماضيًا مع قد أفاد الكلام تحقق الهدى حتى كأنه قد حصل، قيل: والتنوين للتفخيم ووصف الصراط بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجًا، والصراط المستقيم وإن كان هو الدين الحق في الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون أبرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] انتهى.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه إنما يحتاج إليه على تقدير أن يكون المراد من الاعتصام بالله الإيمان به سبحانه والتمسك بدينه كما قاله ابن جريج، وأما إذا كان المراد منه الثقة بالله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه كما روي عن أبي العالية فيبعد الاحتياج، وعلى هذا يكون المراد من الاهتداء إلى الصراط المستقيم النجاة والظفر بالمخرج، فقد أخرج الحكيم الترمذي عن الزهري قال: أوحى الله تعالى: {إلى} داود عليه السلام ما من عبد يعتصم بي من دون خلقي وتكيده السموات والأرض إلا جعلت له من ذلك مخرجًا، وما من عبد يعتصم خلوق من دوني إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأسخت الأرض من تحت قدميه.

.تفسير الآية رقم (102):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} كرر الخطاب بهذا العنوان تشريفًا لهم ولا يخفى ما في تكراره من اللطف بعد تكرار خطاب الذين أوتوا الكتاب {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} أي حق تقواه، روى غير واحد عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويُشكر فلا يكفر، وادعى كثير نسخ هذه الآية وروي ذلك عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفًا على المسلمين {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] فنسخت الآية الأولى، ومثله عن أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس، روى ابن جرير من بعض الطرق عنه أنه قال: لم تنسخ ولكن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم، ومن قال بالنسخ جنح إلى أن المراد من {حَقَّ تُقَاتِهِ} ما يحق له ويليق بجلاله وعظمته وذلك غير ممكن وما قدروا الله حق قدره، ومن قال بعدم النسخ جنح إلى أن {حَقّ} من حق الشيء عنى وجب وثبت، والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها وأن الأصل اتقوا الله اتقاءًا حقًا أي ثابتًا وواجبًا على حد ضربت زيد شديد الضرب تريد الضرب الشديد فيكون قوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] بيانًا لقوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ}.
وادعى أبو علي الجبائي أن القول بالنسخ باطل لما يلزم عليه من إباحة بعض المعاصي، وتعقبه الرماني بأنه إذا وجه قوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} على أن يقوموا بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه ما ذكره لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى على كل حال، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال سبحانه: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] وأنت تعلم أن ما ذكره الجبائي إنما يخطر بالبال حتى يجاب عنه إذا فسر {حَقَّ تُقَاتِهِ} على تقدير النسخ بما فسره هو به من ترك جميع المعاصي ونحوه وإن لم يفسر بذلك بل فسر بما جنح إليه القائل بالنسخ فلا يكاد يخطر ما ذكره ببال ليحتاج إلى الجواب، نعم يكون القول بإنكار النسخ حينئذ مبنيًا على ما ذهب إليه المعتزلة من امتناع التكليف بما لا يطاق ابتداءًا كما لا يخفى، وأصل تقاة وقية قلبت واوها المضمومة تاءًا كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفًا، وأجاز فيها الزجاج ثلاثة أوجه: تقاة، ووقاة، وإقاة.
{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي مخلصون نفوسكم لله عز وجل لا تجعلون فيها شركة لسواه أصلًا، وذكر بعض المحققين أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبي لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان فأخذ الإسلام أولًا والإيمان ثانيًا لما أن لكل مقام مقالًا، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الاسمية، ولو قيل: إلا مسلمين لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل {إِلا} بعد النقض والمقصود النهي عن الكون على حال غير حال الإسلام عند الموت، ويؤل إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي عنه أصلًا لأنه ليس قدور لهم حتى ينهوا عنه، وفي التحبير للإمام السيوطي: ومن عجيب ما اشتهر في تفسير {مُّسْلِمُونَ} قول العوام: أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى جرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه انتهى، وقرأ أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه {مُّسْلِمُونَ} بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم منقادون له؛ وفي هذه الآية تأكيد للنهي عن إطاعة أهل الكتاب.